رحلة الإنسان بين الحقيقة والوهم

في عالم يموج بالتعقيد، حيث تتقاطع الحقائق مع الأكاذيب، وتتداخل الأصوات الصادقة مع تلك المضللة، يقف الإنسان أمام سؤال مصيري: كيف يعرف الحقيقة؟ وكيف يميزها عن الوهم؟ هذا السؤال ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة أخلاقية وإنسانية ودينية، لأن تجاهله يقودنا إلى ظلم الآخرين، ظلم أنفسنا، بل وربما البعد عن رضا الله.

عبر التاريخ، كان الإنسان يسعى بلا هوادة لإدراك الحقيقة. من الفلاسفة الأوائل إلى المفكرين المعاصرين، ظل السؤال قائماً: هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ سقراط، الحكيم الذي علّم الإنسانية أن المعرفة تبدأ بالاعتراف بالجهل، قال: “أعرف أنني لا أعرف”. وفي القرآن الكريم، نجد توجيهاً سامياً يؤكد محدودية المعرفة البشرية: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً”. لكن هنا تكمن المفارقة: إن اعتراف الإنسان بمحدوديته لا يعني أن يستسلم للوهم أو يُخضع وعيه للأكاذيب. بل على العكس، إنه دعوة للسعي المستمر، لتطوير قدراته المعرفية، ولتحري الحقيقة كفعل إنساني يعكس جوهر الإنسان المؤمن.

الحقيقة ليست رفاهية، وليست انتقائية. إنها التزام لا يتجزأ، يجب أن يُمارس مع الجميع دون تمييز. السعي للحقيقة مع من نحبهم سهل، لكنه يصبح أكثر صعوبة حين يتعلق الأمر بمن نختلف معهم، أو من نراهم مخطئين، أو حتى ظالمين. الله تعالى يقول في كتابه الكريم: “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ”. هذه الآية تضعنا أمام مسؤولية كبيرة: أن نكون صادقين وعادلين حتى مع من نعتبرهم أعداء. الحقيقة ليست أداة لتبرير مواقفنا، بل هي معيار ثابت نقيس به أفعالنا وأفعال الآخرين. تحري الحقيقة مع الجميع هو اختبار للإنسانية والأخلاق. لأن التخلي عن الصدق مع من نختلف معهم يعني الانحراف عن الحق وتحويل الحقيقة إلى أداة للظلم.

ليس الوهم مجرد غياب الحقيقة، بل هو بديل خادع يتسلل إلى العقول ويعيد تشكيل الوعي. وقد أظهرت دراسة من مجلة Nature Communications أن الأخبار الزائفة تنتشر بسرعة تفوق الأخبار الحقيقية، مما يعمق الانقسامات المجتمعية ويشوه الإدراك العام. لكن الخطر الأكبر ليس في انتشار الأكاذيب فقط، بل في أن يتحول الإنسان إلى متلقي سلبي، يسير مع القطيع، متخلياً عن شخصيته وفكره، وعن واجبه في البحث والتفكر. وكما يقول الإمام علي بن أبي طالب: “لا يعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله”، فإن تحري الحقيقة هو مسؤولية فردية تسبق أي انتماء أو ولاء.

تحري الحقيقة لا يقتصر فقط على الجوانب الأخلاقية أو المجتمعية، بل يمتد إلى عمق العلاقة بين الإنسان وربه. الإنسان الذي يبني حياته على معارف زائفة وأوهام يغلق الباب أمام الفهم الحقيقي لمراد الله منه. كيف يمكن لإنسان أن يدرك رسالته في الحياة إذا كان يستند إلى تصورات خاطئة أو قناعات مزيفة؟ الله خلق الإنسان لرسالة محددة، ورسالة كل إنسان فريدة ومصممة لتتناسب مع قدراته وظروفه. لكن هذه الرسالة لن تتجلى إلا لمن يسعى بصدق لتحري الحقيقة، لأن الحق هو أساس الفهم الصحيح. وكما يقول الله تعالى: “وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا”، فإن السعي للعلم والحقيقة هو بوابة لفهم الرسالة الإلهية.

عندما يتخلى الإنسان عن تحري الحقيقة ويعيش في ظل أوهام، يصبح فهمه لمراد الله منه مشوهاً. قد يظن أنه يسير في الطريق الصحيح، لكنه في الواقع يبني حياته على أسس خاطئة. الله لم يخلق الإنسان ليعيش في أوهام، بل خلقه ليكون واعياً برسالته ومسؤولاً عن أفعاله. وكما قال الإمام علي: “اعرف الحق تعرف أهله”، فإن معرفة الحق تسبق كل شيء، لأنها الأساس الذي يُبنى عليه الفهم الحقيقي لمراد الله ورسالة الإنسان في الحياة.

إن السعي وراء الحقيقة ليس طريقاً مستقيماً، بل رحلة معقدة تتخللها تحديات وشكوك. لكنها رحلة تستحق أن نخوضها، لأنها السبيل لفهم رسالتنا وتحقيق مراد الله في حياتنا. الحقيقة ليست انتقاءً أو مجاملة، بل التزام دائم مع النفس ومع الآخرين، حتى مع من نختلف معهم. فلنجعل من تحري الحقيقة عبادة، ومن السعي وراءها وسيلة لبناء عالم أكثر عدلاً وإنسانية، يقربنا من بعضنا البعض، ويقربنا من خالقنا.

اللهم اجعلنا من الساعين إلى الحق، الباحثين عن نورك في ظلمات الأوهام، ولا تجعلنا ممن يتبعون السراب فيضلون الطريق. اللهم اجعل قلوبنا مهيأة لتقبل الحقيقة، حتى وإن كانت ثقيلة، وألهمنا الشجاعة لنواجه بها أنفسنا والآخرين.

اللهم ارزقنا بصيرة نميز بها الحق من الباطل، وهب لنا علماً نافعاً ينير عقولنا ويهدي أرواحنا. اللهم اجعلنا يا رب من أهل العدل، الذين لا تجرفهم الكراهية عن الإنصاف، ولا تأخذهم العاطفة عن قول الصدق، حتى مع من خالفونا وظلمونا.

اللهم لا تجعلنا أسرى للأوهام ولا عبيد للأكاذيب، وحررنا من قيود الغرور والهوى. اللهم اجعلنا ممن يتحرون مرادك في كل خطوة، ويستمدون من نورك الهدى لتحقيق رسالتهم التي خلقتهم من أجلها.

يا رب، اجعل تحرينا للحقيقة عبادةً تقربنا إليك، وسبيلًا لفهم حكمتك، وجسرًا لرضاك. واجعل سعينا لتحري الحقيقة لا ينقطع، واهدنا بنورك حين تشتد الظلمات. اللهم آمين.

انضم للقائمة البريدية واحصل على مواد تعليمية مجانا
Subscription Form

مقالات ذات صلة

التعليقات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *